“عيد الحصاد” تحصد المركز الثالث في جائزة الاتحاد العربي للثقافة 2024

بقلم د. سليمان الأعوج

0 143

حصلت قصة “عيد الحصاد” للكاتب الدكتور سليمان الأعرج على المركز الثالث في فرع القصة بمسابقة جائزة الاتحاد العربي للثقافة في دورتها السادسة لعام 2024، التي تُعد واحدة من أبرز الجوائز الأدبية في العالم العربي . ولاقى العمل إشادة واسعة من لجنة التحكيم، التي ترأستها الدكتورة عائشة الخضر، في حين تولى الكاتب إياد حسن رئاسة لجنة فرع القصة والقصة القصيرة.

تهدف المسابقة إلى تسليط الضوء على المواهب الأدبية المتميزة في العالم العربي وتشجيع الإبداع الثقافي. وقد أظهرت نتائج الدورة السادسة مستوى عالياً من التنافس بين المشاركين من مختلف الدول العربية و الأجنبية.

قصة قصيرة

بعنوان:

عيد الحصاد

كان صباحًا ربيعيًا جميلاً في قرية جبلية جميلة وهادئة، حيث يستيقظ أهل القرية على صوت العصافير وتغريدها المتناغم مع نسمات الصباح اللطيفة. في تلك القرية عدد من العائلات التي توارثت العادات والتقاليد من جيل إلى جيل. الشيخ أبو فارس هو شيخ القرية وله بيت كبير، بُني على الطراز القديم من الحجارة السوداء البركانية التي تشتهر بها تلك المنطقة. الشاب “يوسف” الذي يبلغ من العمر 25 عامًا كان يستعد ليوم مليء بالتجهيزات لحدث كبير في القرية: “عيد الحصاد “. الذي يُعدّ من المناسبات الأساسية في كافة القرى بتلك المنطقة ، حيث يجتمع أهل القرى للاحتفال بنهاية موسم الحصاد وتكريم الأرض. هذا العيد هو أكثر من مجرد مناسبة زراعية بل هو رمز لتكافل المجتمع واحتفاء بالتقاليد. كان يوسف من الشباب الأكثر نشاطًا في القرية في تنظيم هذا الاحتفال السنوي الهام وكان قد ورث حب الأرض من جده.

كان يوسف حين يمر بالحقول يشاهد الأطلال الرومانية القديمة التي تزين الأفق، وهي إحدى البقايا التي تذكر السكان بتاريخ منطقتهم العريق، لأن تلك المنطقة كانت جزءًا من الحضارة الرومانية التي تركت بصمات واضحة في هندسة القرى والمدن، حيث تنتشر القنوات المائية والأعمدة الرومانية في كل مكان. كان يوسف فخورًا بجذوره لأنه كان يسمع من جدّه كيف كان الرومان يبنون حضارات عظيمة، وكيف أن المنطقة كانت إحدى مراكزهم الزراعية الهامة. ومن بين المواقع الأثرية البارزة كانت مدينة “شهبا” الرومانية، التي أسسها الإمبراطور فيليب العربي، والتي تقع على بُعد كيلومترات قليلة من منزل يوسف، وقد كانت دائمًا وجهة للعائلات والزائرين والسيّاح لتذكير الأطفال بتاريخهم العريق. كانت الحجارة السوداء الرائعة وأطلال المعابد والمدرجات تُثير الخيال، وتجعل الزائر يشعر وكأنه في قلب الحضارة القديمة.

أما التقاليد في تلك المنطقة فهي تُعدُّ جزءًا لا يتجزأ من حياة الناس اليومية، ففي ليلة عيد الحصاد كانت عائلة شيخ القرية تستعد لاستقبال الضيوف في منزلهم الكبير قبل الاحتفال بعيد الحصاد، حيث تم الترحيب بالزائرين بالقهوة المرة، وهي عادة قديمة متأصلة في ثقافة أهل الجبل، ويُقال إن هذه العادة تعود لزمن قديم من الذين كانوا يسكنون المنطقة لأن القهوة ترمز للصداقة والأخوة، وكرم الضيافة هو من الخصال المعروفة عن أهل تلك المنطقة. أما الشيخ أبو فارس الرجل الذي يُعتبر رمز الحكمة والمعرفة في القرية، يرحّب بالضيوف ويروي لهم قصصًا عن الأيام الخوالي، وكيف كانت الحياة أكثر بساطة وتماسكًا، وكيف أن العادات والتقاليد كانت تُحترم بكل قدسي، كما تحدث عن أهمية “الجاهة”، وهي واحدة من التقاليد العريقة التي لا تزال تمارس حتى اليوم، حيث يجتمع الوجهاء لحل النزاعات بين أفراد القرية بطرق سلمية تعتمد على الاحترام المتبادل والعدل ، أو يجتمعون لطلب عروس لأحد الشبان بحال كان هناك بعض التعقيد.  

 كانت الجدة “أم سعيد” مثالا لإحدى نساء القرية التي تحيك قطعة من اللباس التقليدي المعروف بـ”العباءة”، وكانت أم سعيد تُعرف في القرية بخبرتها في حياكة الأثواب التقليدية المصنوعة من الصوف الطبيعي. أما اللباس التقليدي فهو ليس مجرد قطعة قماش، بل يحمل في طياته رموزًا ودلالات تعكس الهوية الثقافية للجبل وأهله، فقد كانت أم سعيد تشرح لأحفادها عن أهمية اللباس في الماضي وكيف كان الرجال يرتدون العباءات في المناسبات الرسمية والاجتماعية وكيف كانت النساء يلبسن اللباس العربي الطويل الذي يغطي كل الجسم ويُزيّن رؤوسهن بالـطربوش التقليدي المزيّن بالقطع الذهبيّة المختلفة وفوقه الفوطة.  

مع شروق شمس اليوم التالي بدأت القرية تستعد للاحتفال، حيث يتوافد الناس إلى السّاحة العامة والتي تحولت فيما بعد إلى مكان للرقصات الشعبية الرائعة، وكان الجميع متحمسًا لبدء رقصة “الدبكة” التي تُعد من أشهر الرقصات التراثية هناك لأنها كانت تُجسد قوة الجماعة ووحدتهم، حيث تتشابك الأيدي ويتناغم الجميع على وقع الدفوف والمزامير. في وسط الاحتفال يظهر شيخ القرية أبو فارس ، ليشارك المحتفلين الذين تجمعهم المحبة والألفة والوئام دون التمييز بين كبير وصغير أو بين فقير وغني ، وتدخل الصبايا بلباسهم العربي الجميل للمشاركة في الرقصات والدبكات المختلفة وتعلو الزغاريد والتصفيق وتزداد الحلقات المتداخلة لتشكل لوحة فنية جميلة ليس لها مثيل.

أثناء عودته إلى المنزل بعد انتهاء الاحتفال، يقف يوسف أمام أحد الحقول الخضراء، ويتأمل في تلك الأرض التي تربطه بها علاقة وثيقة لأنها جزءًا من هويته، فقد تعلّم من جده أن الفلاح الحقيقي لا يترك أرضه مهما كانت الظروف، وهذا التعلق بالأرض يعكس أيضًا حب أهل تلك القرى للحرية والكرامة، وهي قيم ظلّوا متمسكين بها عبر العصور. فتلك المنطقة ليست فقط موطنًا للتراث المعروف بتقاليده الخاصة، بل هي أيضًا إرث ثقافي متنوع ، فيها خليط ثقافي يعكس تعايشًا سلميًا بين مختلف الأديان والطوائف. كما تنتشر في تلك المنطقة الأديرة القديمة مثل دير مار إلياس، الذي يُعد رمزًا للتنوع الثقافي والديني فيها، وهذا التعايش السلمي هو ما يجعل تلك المنطقة فريدة من نوعها، حيث يعيش الناس معًا في وئام منذ مئات السنين. ومن المعروف أن تلك المنطقة يشهد لها التاريخ بدورها البطولي في مقاومة الاستعمار الفرنسي، نعم إنها محافظة السويداء التي تقع في جنوب سورية، والتي تتميز بتاريخ طويل وحضارة عريقة تمتد جذورها لآلاف السنين. فقد كانت السويداء منذ العصور القديمة، محطة مهمة في مسارات الحضارات المختلفة، بدءًا من الآراميين إلى الرومان والبيزنطيين والعرب. فأرضها الخصبة، جبالها، وبيئتها الغنية بالآثار جعلت منها رمزًا للتاريخ والتراث. وفي تلك المحافظة عاش سلطان باشا الأطرش الذي قاد الثورة السورية الكبرى في عشرينيات القرن الماضي. أهل الجبل كانوا دائمًا ولا يزالوا يُعرفون بشجاعتهم واستعدادهم للدفاع عن أرضهم وكرامتهم. هذه الروح الثورية المتجذرة في نفوس الناس لا تزال حية حتى اليوم.  

عندما أرخى الليل ستاره، جلس يوسف على الشرفة يشاهد النجوم التي تضيء سماء السماء الصافية، شعر بسعادة غامرة وبفخر كبير لكونه جزءًا من هذا التاريخ العظيم وتلك التقاليد التي تحمل في طياتها قصص الأجداد وحكمتهم. فالسويداء ليست مجرد محافظة سورية، بل هي رمز للحضارة والتراث والتاريخ، حيث تتعانق الجبال مع السماء لتروي قصة شعب لا يزال يحتفظ بقيمه وتقاليده رغم تغيرات الزمن. السويداء ليست فقط أرضًا للأطلال والحجارة، بل هي أيضًا أرضٌ للقلوب الدافئة والعقول المتنورة التي تعتز بماضيها وتطمح لمستقبل أفضل، دون أن تتخلى عن جوهرها. هذا هو الإرث الذي تركه الأجداد للأحفاد، إرثٌ من الحب للأرض، التمسك بالعادات، والإيمان بالمستقبل.

   

مصر عادى
اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.