حين يطلّ العراق بثقافته… لا يقدّم نفسه كضيف، بل كجذرٍ حضاري يمتدُّ في الذاكرة البشرية، وكقصةٍ ما زالت تكتب فصولها على ضفاف الرافدين.
جاء الجناح العراقي هذا العام ليكون واحدًا من أكثر الأجنحة حضورًا وعمقًا في البازار الدولي للأمم المتحدة. فقد قاد السفير الدكتور رحمن جوثري، المندوب الدائم لجمهورية العراق لدى الأمم المتحدة والمنظمات الدولية، مشاركةً لم تكن مجرد عرض لمنتجات، بل روحًا نابضة بالحضارات التي ساهمت في تشكيل وجه الإنسانية عبر آلاف السنين.
بدا الجناح العراقي كقصيدة مفتوحة على الزمن؛
أعشاب طبية تحمل إرث الشفاء البابلي،
وخزف عراقي ينهض فوق الطاولات كشظايا جمالية من سومر وبابل وبغداد،
وأنتيكات تروي بلغتها الصامتة حكايات ملوكٍ ومعابدَ وكهنةٍ لم تُمحَ آثارهم من الذاكرة.

أما الأزياء العراقية فلم تكن مجرد ثياب، بل لغةٌ بصرية مكتملة العناصر. فقد تألقت التصاميم المستوحاة من إبداع الفنان ميلاد حامد، وهي تستحضر رموز بلاد الرافدين: خطوطٌ تشبه مجرى الفرات، ألوانٌ تنبض بطمي الأرض، وإشارات من الأساطير الأولى.
بدا كل زيّ وكأنه فصل جديد من الرواية العراقية الكبرى، رواية شعبٍ يحوّل الجراح إلى فن، والتراث إلى هوية باقية.
وتزين الجناح بمشغولات يدوية صنعتها أيادٍ تعرف كيف تبث الدفء في الأشياء
نقوش دقيقة، حياكات تروي حكايات الجدّات، ومقتنيات تؤكد أن الفن العراقي قادر دائمًا على النهوض مهما تعاقبت العواصف.
ولم يكتمل الحضور العراقي دون صوته الأكثر قربًا من القلب
المطبخ العراقي الأصيل.
تصدّرت الدولمة العراقية المشهد كأنها سفيرة بحد ذاتها؛ بطعمٍ يشبه البيوت البغدادية وأجواء المجالس الموصلية، ورائحةٍ تُعيد الزوار إلى ذاكرة لا يعرفها إلا من اقترب يومًا من مائدة عراقية عامرة.
كانت الدولمة امتدادًا لطعم العراق نفسه: غنيّ، دافئ، لا يُنسى.
في هذا البازار، لم تقدّم سفارة العراق منتجات فحسب، بل قدّمت العراق نفسه — تاريخه، فنونه، روحه، وشعبه الذي يصنع من التحدي طريقًا للحياة.
حضورٌ يتجاوز حدود القاعة وينساب في ذاكرة الزوار كتأكيد أن الهوية العراقية، مهما مرّ عليها الزمن، تظل نهرًا متدفقًا… كدجلة والفرات، لا يعرف الانقطاع
