في لحظةٍ صامتة، وأنت تحدّق في شاشةٍ تلمع بين يديك، قد لا تدرك أنك لست وحدك. خلف تلك البقعة المضيئة التي تسكن كفّك، ثمة عيون لا تُرى، وآذان لا تُسمع، تسجّل أنفاسك، وتحصي نبضك، وتعرف عنك ما لم تعرفه أنت عن نفسك.
لقد أصبح الإنسان المعاصر كائنًا زجاجيًا، يعيش في بيتٍ من الضوء، لا جدران تحميه من الرؤية، ولا أسرار يمكنه أن يحتفظ بها طويلًا. كل أداةٍ “ذكية” نمتلكها تُقابلنا بوجهين: وجه الراحة، ووجه المراقبة.
الهاتف الذي نحمله كأقرب صديقٍ إلينا، يتصل بمراكز لا نعرفها. التلفاز الذي يجلس أمامنا في المساء، قد يستمع إلى حديثنا، والمكنسة التي تجوب أرض المنزل تعرف خريطته أكثر مما نعرفها نحن. حتى الساعة التي تلازم معصمنا، تقيس نبضنا، وتحصي خطواتنا، وترسلها إلى حيث لا ندري.
الفصل الطبي: جسدك أيضًا مكشوف
ولم يتوقف الأمر عند حدود التقنية اليومية، بل تمدّد إلى الجسد نفسه.
الأجهزة الطبية الحديثة التي جاءت لتُنقذ الحياة، أصبحت أيضًا ممراتٍ مفتوحة للبيانات. أجهزة الأشعة المتطورة لا تكتفي بتصوير العظام والأنسجة، بل تحفظ تلك الصور في سُحب رقمية عالمية، تُدار في فضاءاتٍ مجهولة.
أجهزة القلب الحديثة المزروعة في صدور المرضى تتصل بالإنترنت، تنقل كل نبضة وكل اضطراب إلى مراكز مراقبة طبية، لكنها في الوقت نفسه تفتح نافذة جديدة على خصوصية الجسد ذاته.
العدسات اللاصقة الذكية، والنظارات المزودة بكاميرات دقيقة ومستشعرات، تتابع العين وما تراه، وتعرف اتجاه النظر وزمن التركيز، وكأنها تسحب من الإنسان آخر ما تبقّى له من عوالمه الداخلية.
لقد أصبح الجسد نفسه “جهازًا متصلاً”، لا ينفصل عن الشبكة، يرسل إشاراته إلى عوالم لا يمكننا تتبعها. ومن هنا، يصبح السؤال مرعبًا: هل نحن الذين نتحكم بالأجهزة، أم أنها التي تتحكم بنا؟
الفلسفة المقلوبة
في الماضي، كان الإنسان يقيس الزمن بساعةٍ رملية، يراقب حبات الرمل وهي تنساب بين كفّيه، رمزًا للسيطرة على الوقت والمعرفة. أمّا اليوم، فالزمن هو من يقيسنا.
الساعة الذكية تعرف متى نستيقظ، ومتى نتعب، ومتى نحتاج إلى النوم. لقد تحوّل الإنسان من “صانع” للآلة إلى “معلومة” داخلها.
الفرق بيننا وبين أجهزتنا لم يعد في الذكاء، بل في الوعي؛ نحن نعيش، وهي ترصد. لكننا كثيرًا ما نغفل أننا في كل لحظة مراقَبة، نشارك دون أن نُدرك في أضخم تجربة مراقبة جماعية عرفها التاريخ البشري.
بين الرمل والضوء
قد يقول البعض: الحل هو أن نعود إلى الساعة الرملية، إلى البساطة الأولى، إلى عالمٍ بلا شبكاتٍ ولا شاشات.
لكن هل نستطيع؟ لقد صرنا نتنفس تكنولوجيا، نعمل بها، نتواصل بها، ونعتمد عليها في حياتنا اليومية كما نعتمد على الهواء. العودة ليست مستحيلة فحسب، بل هي نوع من الانتحار الحضاري.
ومع ذلك، لا يمكننا أيضًا الاستسلام الكامل.
إن التحدي الحقيقي اليوم ليس في إيقاف المراقبة، بل في إدراكها، والتحكم في حدودها. أن نكون أسياد التقنية لا عبيدها، وأن نفهم كيف تُستخدم بياناتنا، وإلى أين تذهب.
خاتمة
الساعة الرملية كانت تذكّر الإنسان بأن الزمن ينساب من بين يديه.
أما الساعة الذكية فتذكّره بأن ذاته كلها قد أصبحت مادة قابلة للقياس والتسجيل والتحليل.
بين الرمل والضوء، بين الماضي البسيط والمستقبل المعقّد، يقف الإنسان حائرًا أمام سؤال الوجود الجديد:
هل ما زلنا أحرارًا في عالمٍ يعرف كل شيء عنا؟
أم أننا – دون أن نشعر – قد استسلمنا لواقع الحياة الحديثة، نعيش فيه تحت المراقبة اللامرئية… باسم الراحة والتطور
