فيينا… حيث تشرب القهوة لتتذكر أنك حيّ  

بقلم دعاء أبوسعدة

0 35

لم أكن أعرف أن القهوة يمكن أن تُعلّمك كيف تعيش…

حتى جلست في أحد مقاهي فيينا القديمة، قرب نافذةٍ تُطلّ على شارعٍ لا يُسرع فيه أحد.

هناك، أدركت أن هذه المدينة لا تُشرب بعينك، بل تُحتسى بروحك.

كل شيء فيها يتحرك بإيقاعٍ ناعم عربات الترام التي تمرّ كأنها حلم، أصوات الملاعق الصغيرة وهي تطرق فناجين البورسلين، النادل الذي يضع فنجانك على الطاولة كما لو أنه يضع كتابًا مقدسًا.

في فيينا، حتى الصمت له نغمة.

المقهى… أكثر من مكان

في مدنٍ كثيرة، يكون المقهى محطةً مؤقتة، أما في فيينا فهو وجهة بحد ذاته.

مكان لا تحتاج فيه إلى سببٍ لتجلس.

يجلس الفيينيّون هنا كما لو كانوا يوقّعون اتفاقًا مع الزمن “لن أركض اليوم.”

يُطلقون عليه “البيت الثالث” لا بيتك الأول ولا عملك الثاني، بل بيتك الذي تلتقي فيه بذاتك.

هنا، يمكن أن تجلس ساعاتٍ دون أن يلمحك أحد بالعجلة في عينيه.

القهوة لا تُقدَّم لتُشرب، بل لتفكر وأنت تحتسيها…

تقرأ، تكتب، أو تكتفي بأن تراقب الحياة وهي تمرّ على مهل.

تاريخٌ يُسكب في الفنجان

يقولون إن القهوة جاءت إلى فيينا صدفةً بعد أن غادر العثمانيون أسوارها عام 1683، تاركين أكياسًا من الحبوب السوداء لم يعرفها أحد.

لكن فيينا لا تصدّق بالصدف.

فمن تلك الحبوب وُلدت أسطورة جديدة 

 الأرمني يوهانس ديوداتو صنع منها شرابًا جعل المدينة تدمن رائحة الشرق،

ومنذ ذلك اليوم، لم تعد القهوة مشروبًا، بل هوية ثقافية كاملة.

كل مقهى في فيينا يحمل شيئًا من تلك البداية

خشبٌ قديم، مرايا عتيقة، مصابيح صفراء دافئة، وصحيفة مطويّة تنتظر قارئًا لديه وقت.

حيث يلتقي الفكر بالبخار

في القرن التاسع عشر، كانت المقاهي هنا أشبه ببرلمانات مصغّرة للأفكار.

في Café Central كان يمكن أن ترى تروتسكي يقرأ جريدةً بجوار بيتر ألتنبرغ الذي يكتب شعره على المناديل الورقية، بينما فرويد يمرّ صامتًا خلفهم، يتأمل الوجوه كما يتأمل الأحلام.

فيينا كانت تصنع فكرها من بخار القهوة.

كل فكرةٍ خرجت من فنجان، وكل ثورةٍ بدأت على طاولة رخامية.

القهوة هنا ليست شرابًا، بل طريقة تفكير،

طقسٌ يجمع بين التأمل والوضوح — كأنك تمسك العالم بين أصابعك وتشربه رشفةً رشفة.

زمنٌ لا يُقاس بالساعات

فيينا لا تعرف السرعة، لكنها لا تتأخر أبدًا.

هي تعيش على مهلٍ يشبه الاحترام. احترام اللحظة، والإنسان، والفكرة.

حين تجلس في مقهى مثل Sperl أو Landtmann، تشعر أنك دخلت في زمنٍ آخر،

زمنٍ يمشي بحذاءٍ من المخمل، لا يُصدر ضجيجًا، لكنه يترك أثرًا لا يُمحى.

النادل يبتسم دون استعجال.

الناس يقرؤون الصحف الورقية كمن يمارس طقسًا مقدّسًا.

وحتى الغروب حين يهبط على المدينة، يهبط ببطءٍ كي لا يوقظ أحدًا من تأمّله.

القهوة كفلسفة

فيينا لا تعلّمك كيف تشرب القهوة، بل كيف تنظر إليها.

كيف تتركها تبرد قليلًا لتفكر،

وكيف تكتشف في كل رشفةٍ فكرة، وفي كل فكرةٍ رشفة حياة.

القهوة في هذه المدينة تشبه مرآةً صغيرة

ترى فيها وجهك، لكنك ترى أيضًا ما أنت عليه في تلك اللحظة.

لهذا السبب، من يشرب قهوته هنا لا يخرج كما دخل.

حين تصغي المدينة إلى نفسها

المقاهي في فيينا ليست معالم سياحية؛ إنها أماكن للتذكّر.

كل طاولةٍ تحفظ قصة، كل فنجانٍ شهد حوارًا، كل زاويةٍ تتنفس ماضيها برائحة البنّ.

وحين أدرجت اليونسكو “ثقافة المقاهي الفيينية” ضمن التراث الإنساني،

كانت تحتفي بهذا الشيء الذي لا يُرى فنّ الإصغاء للحياة وهي تمضي ببطءٍ جميل.

أن تشرب زمنك على مهل

أدركت وأنا أغادر المقهى أن فيينا لا تحتاج إلى كثير من الجهد لتُحبّها.

يكفي أن تجلس في مقهى صغير، تطلب قهوتك، وتتركها تبرد قليلًا.

تستمع إلى همس المدينة وهي تقول لك بصوتٍ لا يُسمع

“لا تتعجّل. فالحياة، مثل القهوة، تفقد طعمها إن شُربت بسرعة.”

وهكذا، خرجت من فيينا وأنا أحمل شيئًا من طريقتها في احتساء الزمن 

هدوءها، وبساطتها، وإيمانها العميق بأنّ أبطأ اللحظات قد تكون أكثرها امتلاءً بالحياة

 

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.