في شتاء عام 1982، انطفأت مدينة حماة السورية تحت ركامها.
كانت المدينة التي تتفيأ ظلّ نواعيرها على العاصي، تتحوّل إلى رمادٍ بفعل نارٍ لم تترك حجراً على حجر، ولا روحاً إلا وخنقتها.
لم يكن ما جرى معركةً، بل فصلًا من فصول الإبادة، حين يقرّر الحاكم أن يختصر الوطن في نفسه، فيمحوه إن تمرّد عليه.
وبعد انقضاء المأساة، قال أحد الحمويين لصديقه الحمصيّ بمرارةٍ موجعة:
“لقد دخلنا التاريخ.”
فأجابه الحمصيّ ساخرًا، وفي صوته حزن الأبد:
“لكنكم خرجتم من الجغرافيا.”
هكذا لخص السوريون مأساتهم بنكتةٍ سوداء؛ سخريةٍ تمشي على جراحٍ غائرة.
فالسخرية كانت درعهم الأخير في وجه الجنون، وسيلتهم للبقاء أحياء في حضرة الموت.
لم تكن النكتة إلا صرخةً خافتة تقول: ربما سُوِّيت مدينتنا بالأرض، لكنّها ستبقى شاخصة في الذاكرة إلى الأبد.
واليوم، بعد أكثر من أربعة عقود، تُعيد غزة المشهد في صورةٍ أشدّ قسوةً وأوسع مأساة.
مدينةٌ محاصرة منذ سنين، تُقصف ليلًا ونهارًا، يُقتل أهلها ويُهدم عمرانها، ثم يخرج الناجون منها وهم يرفعون رايات النصر.
يبدو المشهد للبعيدين غير قابل للفهم: كيف يمكن للمدينة التي تحوّلت إلى أنقاضٍ أن تُعلن النصر؟
لكن من يعرف غزة يدرك أن النصر ليس دائمًا في كسر العدوّ، بل في كسر اليأس.
أن تخرج من تحت الركام وتقول “ما زلت هنا” هو أعظم نصرٍ يمكن أن يحقّقه الإنسان.
كما دخلت حماة التاريخ يوم خرجت من الجغرافيا، تدخل غزة اليوم التاريخ دون أن تبرحه جغرافيًا.
فهي المدينة التي قرّرت أن تبقى رغمًا عن من أراد محوها،
وأن تزرع في ركامها بذور الحياة من جديد، لتقول للعالم:
قد تُهدم البيوت، لكن لا يُهدم الإصرار.
إنها المفارقة التي تُعيد تعريف النصر والهزيمة.
فبعض المدن تُخلَّد لا لأنها انتصرت في معركة، بل لأنها صمدت في وجه الفناء.
وحين تتحوّل المدينة إلى رمزٍ للكرامة، تصبح أكبر من جغرافيتها، وأعمق من حدودها، وأقرب إلى الخلود.
وهكذا، كما بقيت حماة شاهدًا على جرحٍ لم يندمل، تبقى غزة اليوم شاهدًا على أمةٍ ما زالت تنبض بالحياة رغم الجراح.
فربّ مدينةٍ دُمّرت لتولد من رمادها،
وربّ شعبٍ خرج من تحت الركام أكثر التصاقًا بالأرض، وأكثر إيمانًا بأن الذاكرة أقوى من القذائف،
وأن من يزرع في التراب دمه، لا يمكن أن يُمحى من التاريخ، ولا من الجغرافيا.
د. تمام كيلاني
رئيس الجمعية الطبيه الاوربيه العربيه