في الذكرى الثانية والخمسين لحرب أكتوبر، أكتب عن لحظة فارقة في التاريخ العربي، بين حلم التحرير وواقع التحريك، مستندًا إلى شهادتي الميدانية من قلب سوريا…
في صباح السادس من أكتوبر عام 1973، استيقظت الأمة العربية على حدث غير مسبوق: هجوم مفاجئ من الجيشين المصري والسوري على مواقع الجيش الإسرائيلي، بعد ست سنوات من هزيمة يونيو / حزيران 1967 التي تركت ندوبًا عميقة في نفوس الشعوب العربية وخرائطها. كانت هذه الحرب في ظاهرها حربًا للتحرير، لاستعادة سيناء ومرتفعات الجولان، لكنها في أعماقها حملت كثيرًا من التعقيدات السياسية والميدانية التي أضحت فيما بعد سببًا لتسميتها بـ«الحرب التحريكية».
كنت شاهدًا على جزء من هذا الصراع، حين رصدت من أطراف حماة في سوريا تحرك القوات العراقية نحو الجبهة السورية. لم يكن الأمر مجرد قافلة عسكرية تمر على طرقات هادئة، بل كان مرورًا يحمل في طياته رسالة استراتيجية: التضامن العربي الفعلي مع سوريا، رغم كل التعقيدات السياسية التي كانت تعيشها المنطقة آنذاك.
القوات العراقية، وهي تتجه نحو الجولان، أثارت شعورًا بالتقدير والإعجاب، لكنها أيضًا حملت دلالات سياسية تتعلق بالتوازنات العربية والدور العراقي في مواجهة التهديد الإسرائيلي الذي اقترب خطيرًا من دمشق. فقد وصلت هذه القوات إلى مواقع قريبة من العاصمة وساهمت، بطريقة غير معلنة حينها، في صدّ التقدم الإسرائيلي، ومنعت ما كان قد يترتب على ذلك من سقوط محتمل لدمشق.
إلا أن الانتصار المبكر لم يكن كاملًا. ففي الجبهة المصرية، وبعد نجاح القوات المصرية في اجتياز قناة السويس وكسر خط بارليف، حدث ما أصبح يُعرف بـ«ثغرة الدفرسوار»، التي استغلتها القوات الإسرائيلية للعبور غرب القناة نحو قلب سيناء. هذا التحول أعاد مسار الحرب من مرحلة التحرير إلى ما يمكن وصفه بالتحريك العسكري، حيث لم يعد الهدف الأول هو استعادة الأرض فحسب، بل الدفاع عن المكتسبات المبكرة وضمان ثبات المواقف الميدانية.
ومع دراسة خلفيات الحرب، لا يمكن تجاهل أثر التحولات السياسية والعسكرية التي سبقت عام 1973 على بنية الجيش السوري وكفاءته. فقد شهدت تلك المرحلة سلسلة من التغييرات الجذرية في بنية المؤسسة العسكرية، انعكست على مستوى الاحتراف والانضباط والجاهزية القتالية. إذ جرى خلال حقبة الستينيات وبداية السبعينيات اعتماد نهج في التعيينات والترقيات العسكرية ركّز على الولاء السياسي أكثر من الخبرة المهنية، وتسريح الاف من الضباط السنه الاكفاء مباشرة بعدما استولى حزب البعث على السلطة يوم 8.3.1963 مما أدى إلى تراجع في كفاءة القيادة الميدانية، وإضعاف في منظومة القيادة والسيطرة.
وعند قيام حافظ الاسد بما يسمى إثما وبهتانا الحركة التصحيحية اخذت الأمور منحا آخر أدى إلى تراجع امكانيات الجيش السوري وكفاءاته واصبح جيشا للدفاع عن الحكم ومناصرة العصابات الاسديه .
هذا التوجه كان له أثرا بالغا في مسار الحرب، إذ افتقدت بعض الوحدات للتناغم العملياتي المطلوب بين القيادة والصفوف، ما جعل الموقف الميداني في دمشق بالغ الحساسية. وقد وصلت التهديدات الإسرائيلية إلى مشارف العاصمة، قبل أن تتدخل القوات العربية، خاصة العراقية والمغربية، لتعيد التوازن وتثبّت خطوط الدفاع.
لقد أدت هذه العوامل إلى جعل الحرب درسًا مركبًا يجمع بين الانتصار العسكري المحدود والدروس السياسية العميقة. فالميدان أظهر أن الجيوش العربية، رغم شجاعة مقاتليها وتضحياتهم الكبيرة، تحتاج إلى مؤسسات عسكرية مهنية ومستقلة قادرة على العمل وفق منطق الدولة لا منطق الولاءات. كما أظهرت التجربة أن الانشغال بالقضايا الداخلية والصراعات السياسية يُضعف مناعة الجبهة ويشتت الجهود الميدانية.
وما بعد الحرب، تكرست ظاهرة تركيز المؤسسات الأمنية والعسكرية على حفظ الاستقرار الداخلي أكثر من حماية الحدود، وظهر هذا جليا عندما تعرضت مدينة حماه عام 1982 لابشع مجرة في تاريخ سوريا حيث اقتحمت العصابات الاسديه هذه المدينة الهادئة ودمرت معظم احيائها وقتلت مايزيد على أربعين الفا من الأطفال والشيوخ والنساء والعزل والتي عرفت بمجزرة العصر مما اثر تدريجيًا على الدور الوطني للجيش، وعلى الثقة العامة بقدراته كقوة دفاعية استراتيجية. وقد انعكست هذه التحولات على العقيدة العسكرية ذاتها، فغابت فكرة المواجهة المستمرة مع العدو الخارجي، وحلّ محلها اهتمام متزايد بإدارة الشأن الداخلي وانحسر دور الجيش لحماية الحكم بإلقاء البراميل المتفجره على المدن الآمنة ابان الثورة السورية والتي دامت اربعة عشر عاما انتهت بانتصار إرادة الشعب السوري على العصابه الأسدية يوم 8.12.2024
ما يميز حرب أكتوبر أنها جمعت بين الشهادة الشخصية والتحليل الاستراتيجي. فمن زاوية الميدان، رأيت كيف تحركت القوات العربية عبر الأراضي السورية، وكيف كانت تضحي بأرواح جنودها في معارك ضارية. وهناك، على مشارف الجولان، أثبتت الوحدة المغربية حضورها القوي رغم الخسائر الكبيرة التي تكبدتها، وأصبحت مثالًا على التضحية العربية المشتركة في مواجهة الخطر.
لقد أظهرت الحرب أن الصراعات الكبرى لا تُحسم فقط في الميدان، بل أيضًا في الغرف السياسية ومراكز القرار. وأن الانتصارات العسكرية تحتاج إلى قيادة متماسكة وتنسيق استراتيجي يوازي شجاعة المقاتلين. كما أكدت أن استقلال القرار العسكري عن التقلبات السياسية هو أحد أهم عوامل النجاح في أي مواجهة مصيرية.
وهكذا، تبقى حرب أكتوبر بين التحرير والتحريك درسًا خالدًا للأجيال العربية، تذكيرًا بأن التاريخ لا يُصنع بالنيات وحدها، بل بالقدرة على الموازنة بين الطموح والواقع، وبين الشجاعة والتخطيط، وبين الوحدة والعمل المنظم. ورغم ما شهدته من تناقضات وتعقيدات، فإنها تظل لحظة مضيئة في الذاكرة العربية، حين امتزجت الدماء بالأمل، لتؤكد أن روح التضامن العربي قادرة على النهوض من جديد متى توفرت الإرادة والرؤية.
د. تمام كيلاني
٦ تشرين الأول ٢٠٢٥