من الدوحة… حين تتحول مكافحة الفساد إلى سؤال أخلاقي عن معنى الدولة والعدل الدولي  

الدوحة – دعاء أبوسعدة

0 18

في عالم تتسارع فيه الوقائع وتتداخل فيه المصالح، لم يعد الفساد مجرد خلل إداري أو انحراف قانوني، بل صار مرآة تعكس اختلالات أعمق في بنية النظام الدولي نفسه.

ومن هذا الوعي، جاء بيان مجموعة الـ77 والصين خلال الدورة الحادية عشرة لمؤتمر الدول الأطراف في اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد، المنعقد حالياً في الدوحة، ليعيد صياغة النقاش من مستوى الإجراءات إلى مستوى القيم، ومن لغة التقارير إلى أفق المعنى.

البيان، الذي ألقاه سعادة السفير عز الدين فرحان، الممثل الدائم للمملكة المغربية، لم يكتفِ بتشخيص الظاهرة، بل قدم تصوراً فلسفياً وسياسياً يرى في مكافحة الفساد امتحاناً لصدق المجتمع الدولي، واختباراً لقدرة العالم على التوفيق بين العدالة والتعاون، وبين محاربة الجريمة واحترام سيادة الدول.

في مستهل كلمته، استحضر السفير فرحان روح التعددية، مهنئاً رئاسة المؤتمر وأعضاء مكتبه، ومشيداً بقيادة المكتب المنتهية ولايته، كما عبّر عن تقدير المجموعة لدولة قطر التي تحتضن هذا اللقاء الدولي في لحظة مفصلية من تاريخ الحوكمة العالمية، حيث تتزايد الأسئلة حول من يضع المعايير، ومن يخضع لها، وبأي منطق.

وأكد أن الفساد لم يعد شأناً داخلياً محضاً، بل صار ظاهرة عابرة للحدود، تتغذى من هشاشة النظم، وتتعاون أحياناً مع الجريمة المنظمة، وتتحول في كثير من الأحيان إلى أداة لإعادة إنتاج اللامساواة بين الدول.

وشدد على أن مواجهته لا يمكن أن تتم عبر مقاربات انتقائية أو إجراءات أحادية، بل عبر التنفيذ الكامل والمتوازن لاتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد، بوصفها تعاقداً أخلاقياً قبل أن تكون نصاً قانونياً.

وفي مقطع بالغ الدلالة، ربط السفير بين الفساد والتدفقات المالية غير المشروعة، معتبرًا أن الأموال المنهوبة ليست مجرد أرقام عابرة في حسابات سرية، بل موارد مسلوبة من حق الشعوب في التنمية والكرامة.

ومن هنا، أكد باسم المجموعة أن استرداد الأصول وإعادتها إلى بلدانها الأصلية دون شروط، وبالاحترام الكامل لسيادتها، ليس تفضلاً سياسياً، بل تصحيح لمسار تاريخي مختل.

كما حذر السفير عز الدين من أن الفساد يقوض الدولة من الداخل، وأن تسييس مكافحة الفساد قد يقوض النظام الدولي من الخارج.

لذلك جدّدت مجموعة الـ77 والصين تمسكها بمبادئ المساواة في السيادة والوحدة الترابية وعدم التدخل في الشؤون الداخلية، وفقاً للمادة الرابعة من الاتفاقية، رافضة منطق التصنيفات والوصاية، ومعتبرة أن العدالة التي تُمارَس بميزانين تفقد معناها الأخلاقي.

كما شدد في بيانه على أن التعددية ليست خياراً إجرائياً، بل ضرورة وجودية في عالم مترابط، وأن العقوبات والإجراءات الأحادية، مهما كانت مبرراتها، تفرغ التعاون الدولي من روحه، وتحول مكافحة الفساد من جهد جماعي إلى أداة صراع.

وعلى مستوى الآليات، أبرز السفير فرحان أن آلية استعراض تنفيذ الاتفاقية تمثل الضمير العملي لهذا المسار الدولي، وأن دخولها مرحلتها الثانية يجب أن يُواكب بتمويل مستدام ومحايد من الميزانية العادية للأمم المتحدة، حتى لا تتحول الرقابة إلى أداة ضغط، ولا الإصلاح إلى امتياز مشروط.

كما نوّه إلى الدور الجوهري لمكتب الأمم المتحدة المعني بالمخدرات والجريمة، داعياً إلى تمكينه من موارد كافية لدعم الدول النامية في بناء القدرات ونقل التكنولوجيا، باعتبار أن العدالة العالمية لا تكتمل إذا بقيت الأدوات حكراً على القادرين.

وفي الختام، بدت الرسالة واضحة وعميقة: إن مكافحة الفساد ليست معركة ضد أفراد فحسب، بل معركة من أجل إعادة تعريف العلاقة بين الدولة والمجتمع، وبين الشمال والجنوب، وبين القوة والحق. ومن الدوحة، أعلنت مجموعة الـ77 والصين أن العدالة الحقيقية لا تُقاس بحدة العقوبات، بل بصدق النوايا، وبقدرة العالم على بناء نظام دولي لا يحارب الفساد بيد، ويقوض السيادة بالأخرى

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.