مليارديرات من ورق… حين تتحوّل فلسطين إلى جواز مرور وموطئ قدم لموائد الثراء
فيينا دعاء أبوسعدة

نشكر مصر، ونبدأ بها، كما يليق بمَن لا تزال بوصلتها تشير نحو الإنسان.
نشكرها على احتضانها الدائم لأهل غزة، على رعايتها الكريمة رغم صمت الآخرين، وعلى صبرها الطويل إزاء أولئك الذين امتهنوا جلدها وسبها، لا حبًّا في فلسطين، بل استثمارًا في أوجاعها.
في زمن الضجيج، باتت منصات التواصل مرتعًا لأشخاص يزعمون أنهم “مثقفون” وهم في الحقيقة مُنظّرون للشتيمة، يتغذّون على بث الكراهية وتزوير الوعي.
كل من لا يوافق روايتهم خائن، وكل فيديو لا يخدم سرديتهم ملفّق، وكل صوت عاقل هو، لا محالة، عميل.
هؤلاء لا يسألون ،لماذا تُقصف غزة؟
بل يسألون ،لماذا لا تُمجدوننا على المنصات؟
أما ما يحدث على الأرض، فيغيب عن حساباتهم تمامًا، فهم مشغولون بحفلات جمع التبرعات في المعارض والبازارات ، تحت لافتات “دعم غزة”.
لكن الأموال، للأسف، لا تصل إلى الخيام أو المستشفيات أو الأنقاض، بل تصل إلى أرصدتهم البنكية ورفاهيتهم الشخصية.
ومع ذلك، لا يخجلون من رفع شعارات كبيرة تليق بأفلام وثائقية، لا بواقع مُفجع.
تغيب المساءلة، وتُنسى الحقيقة، ويبقى الشعار “اتبعنا أو اصمت”.
ولأن الحديث عن القضية لا يكتمل دون الغوص في عمق الخلل، لا بد أن نطرح السؤال المؤلم
أين هم أثرياء فلسطين؟
أين مَن أنعم الله عليهم بالمليارات؟ أين أصحاب العقارات العملاقة والشركات العابرة للقارات الذين يحملون الجوازات الأميركية والأوروبية والعربية… ويُخفون الهوية الفلسطينية كما يُخفى العار؟
تشير الدراسات إلى أن هناك قرابة 100 ملياردير فلسطيني منتشرون حول العالم.
أكثرهم لا يحمل سوى ذكرى رمزية عن فلسطين، وربما صورة بالأبيض والأسود معلّقة في مكتب فاخر على أطراف مانهاتن أو لندن.
ماذا قدّم هؤلاء لغزة؟
هل شيّدوا مستشفى؟ هل رمّموا مدرسة؟ هل أرسلوا دعمًا ملموسًا لأرضهم التي أنجبتهم؟
أم أن استثماراتهم في الوطن مجرد صدفة عابرة، لا تتعدى نسبة 20% من ثرواتهم، كما تشير البيانات؟!
والأدهى من ذلك، أن أحد كبار الأثرياء الفلسطينيين اعترض على تصنيفه في مجلة “فوربس”، لأنها قَدَّرت ثروته بـ24 مليار دولار بدلًا من 26 مليارًا!
لم يحتجّ على مأساة بلاده… بل على ترتيب اسمه في قائمة الأثرياء!
يا له من بُعد بين الضمير والرصيد البنكي…
في المقابل، نرى المليارديرات اليهود يتبرعون سنويًا لإسرائيل بمليارات الدولارات، ويمولون اللوبيات السياسية والإعلامية والاقتصادية لدعم الاحتلال، ويُسخّرون علاقاتهم الدولية لخدمة “الحلم الصهيوني”، حتى باتت تبرعاتهم تتجاوز المساعدات الرسمية التي تقدمها واشنطن لتل أبيب.
أما نظراؤهم من الأثرياء الفلسطينيين، فلا موقف لهم سوى الصمت المترف، أو التبرع لحملات تسويقية بأسمائهم، أو الظهور في مؤتمرات فخمة بكلمات باهتة لا تُسمن ولا تُغني من جوع.
ولماذا لا يُسأل هؤلاء؟
لماذا لا يجرؤ أحد على مساءلتهم أو حتى ذكر أسمائهم؟
بينما تنهال الاتهامات على كل مَن ينتقد هذا الصمت أو يشير إلى ازدواجية الخطاب.
هل بات الدفاع عن فلسطين حكرًا على من يُجيد الصراخ فقط؟
أين الحملات التي تدعو فلسطينيي المهجر من أميركا وأوروبا للعودة والدفاع عن أرضهم كما فعل اليهود في مشروعهم الاستيطاني؟
أليس من الأولى أن يُطالبوا إخوانهم المليارديرات بالوفاء بدَين الهوية قبل أن يُطالبوا الشعوب الأخرى بالمواقف؟
إن الثورة الحقيقية تبدأ من الداخل… من المحاسبة لا التبرير، من الفعل لا الندب، من الصدق لا التلاعب.
وإلى أولئك الذين يُطلّون علينا كل يوم بشعارات أكبر من حجمهم، نقول
هل السبُّ من سمات المثقفين؟
هل الشتيمة دليل وعي؟
أم أن الثقافة الحقة تقتضي أن نطرح قضيّتنا بلغة راقية، بنضج فكري، وأدب في الطرح… لا فجاجة في الصوت؟
ختامًا، تبقى مصر…
تحتضن الجرح الفلسطيني بصمت العارف، وتتحمل أعباء الصراع بينما الآخرون مشغولون بتلميع أنفسهم.
لا تنشر فواتير دعمها، ولا ترفع شعارات جوفاء، بل تفتح معابرها وتحتضن منكوبي غزة بلا عدسات ولا أضواء.
ويبقى السؤال
هل ما زال فينا مَن يحب فلسطين حقًّا… أم أننا نحب فقط أن نُعرَف كمحبين لها؟