في البازار الدولي الخيري السادس والخمسين للأمم المتحدة لعام 2025 في فيينا، حضرت فلسطين هذا العام لا بوصفها دولة مشاركة فحسب، بل بوصفها “هوية تمشي في الذاكرة الدولية”.
تقدّمت فلسطين برئاسة السفير صلاح عبد الشافي، المندوب الدائم لدى الأمم المتحدة والمنظمات الدولية، لتضع بصمتها في فضاءٍ يعجّ بثقافات العالم، لكنها اختارت ألّا تعبر بصمت؛ بل أن تُعلن نفسها عبر الرموز التي لم تهزمها العقود، عبر الجمال الذي صمد بصلابة الحجر ونُبل الحكاية.
في الجناح الفلسطيني، لم يكن العرض مجرد منتجات؛
كان تشكيلًا بصريًا لروح شعبٍ يحول الوجع إلى حرفة، والذاكرة إلى خيطٍ مطرّز.

الشال الفلسطيني بدا كأنه صفحة من تاريخٍ منسوج،
والجلاليب، بتطريزها اليدوي الدقيق، كانت أشبه بمدوّناتٍ صامتة،
كل غرزة فيها تشهد على أن الهوية ما زالت تُخاط باليد، لا بالخطابات.
وعلى الرفوف، وُضعت الزيوت الطبيعية كأنها خلاصة لأرضٍ تحفظ سرّها في الزيتونة،
والأعلام الفلسطينية لم تكن زينة، بل نبضًا معلّقًا على الحائط، يذكر بأن القضية لا تزال مشتعلة في وجدان العالم.
أما المطبخ الفلسطيني، فكان رواية أخرى تُقدَّم على شكل مذاقات؛
أطباقٌ تحمل رائحة البيوت الأولى،
وتوابل تعيد الزائر إلى ما قبل السياسة… إلى الناس.

إلى المدن التي لا تزال تحفظ نكهتها رغم محاولات الطمس والتغيير.
لكن اللحظة التي أوقفت الزوار طويلاً كانت حين اعتلت الفرقة الفلسطينية خشبة البازار.
كانت الدبكة ليست رقصة، بل ضربة قدم على الأرض تقول نحن هنا.
وكان التراث الشعبي ليس عرضًا، بل استعادة لحقٍ قديم في الفرح، ومقاومة من نوع آخر؛ مقاومة تتكلم لغة الجمال.
ارتفعت الأغنيات، فالتفتت الوفود، ورأى العالم — ولو للحظات — فلسطين كما تريد أن تُرى
بهيّة، حيّة، ممتلئة بالموسيقى، وليست أسيرة العناوين السياسية وحدها.
جذبت العروض اهتمام الجمهور الدولي، لا بسبب الغرابة أو الغموض، بل لأنها جاءت صادقة؛
ممتلئة بعمق الإنسان الفلسطيني الذي ما زال يصرّ على حماية ذاكرته من التلاشي.
لقد بدا جناح فلسطين كأنه فضاءٌ رمزي داخل فضاء الأمم؛
مكانٌ يُذكِّر بأن الثقافة ليست رفاهية، بل إحدى أشكال البقاء،
وأن الهوية التي تنجو من الحروب لا تنجو بالصدفة، بل لأنها تُزرع كل يوم في الأغنية، في الخيط، في الزيت، وفي تلك الرقصة التي تضرب الأرض بثبات.
وفي نهاية اليوم، خرج الزوار من الجناح الفلسطيني محملين بشيء أكبر من الهدايا؛
بشعورٍ داخلي مفاجئ بأن فلسطين ليست قضية على طاولة المفاوضات، بل شعبٌ يعيش بكامل نبضه، وإبداعه، واستمراره العنيد.
وهكذا، من قلب فيينا، وفي حضرة ثقافات العالم، قدّمت فلسطين للعالم نسختها الأكثر صدقًا وعمقًا
فلسطين التي تعرف أن الجمال شكلٌ من أشكال المقاومة،
وأن التراث — حين يُعرض بهذا الصفاء — يصبح لغة عالمية لا تحتاج إلى ترجمة
