
يأتي عيد الميلاد كل عام في قلب الشتاء، حين يبطئ الزمن خطاه، وتصبح المدن أكثر إنصاتًا لأنفاسها. في النمسا،
حيث تتجاور العمارة القديمة مع الأضواء الدافئة، لا يبدو الميلاد مجرد مناسبة احتفالية، بل لحظة تأمل جماعي في معنى الدفء الإنساني وسط عالم يزداد برودة، لا في طقسه فقط، بل في علاقاته أيضًا.
بعيدًا عن أي قراءة عقائدية، يمكن النظر إلى ميلاد السيد المسيح عيسى عليه السلام بوصفه رمزًا ثقافيًا وإنسانيًا عميقًا، ارتبط عبر القرون بقيم التواضع، والرحمة، والانحياز للإنسان في ضعفه.
فالميلاد، في هذه القراءة، لا يحيل إلى حدثٍ تاريخي بقدر ما يفتح
سؤالًا دائمًا
كيف يمكن للمعنى أن يولد في زمن القلق؟
في عصر تتكاثر فيه الأزمات، وتتحول فيه المعاناة الإنسانية إلى أرقام ونشرات أخبار، يبدو الحديث عن المحبة فعلًا معاكسًا للتيار.
لكن المحبة هنا ليست خطابًا عاطفيًا، ولا فكرة مثالية، بل ضرورة وجودية.
من دونها، يفقد المجتمع توازنه الأخلاقي، ويغدو التعايش شكلًا بلا روح.
لسنا في حاجة، في هذا العيد، إلى شجرة أعلى، أو أضواء أكثر لمعانًا.
ما نحتاجه هو قلوب تتّسع لفكرة الاختلاف دون خوف، وعقول قادرة على الاعتراف بأن الإنسان، أيًّا كان انتماؤه، يظل قيمة بحد ذاته.
فالأعياد، في جوهرها، ليست استعراضًا للفرح، بل اختبارًا لقدرتنا على مشاركته.
يحمل تبادل الهدايا في عيد الميلاد معنى رمزيًا يتجاوز الفعل ذاته.
فالهدية، في أعمق معانيها، هي إقرار متبادل بالوجود، ولحظة اعتراف صامتة بأن العلاقة الإنسانية تستحق أن تُصان.
في هذا السياق، يصبح العطاء لغة مشتركة لا تحتاج إلى ترجمة، وجسرًا ناعمًا بين الذوات.
أما الرموز الطفولية المرتبطة بالميلاد، مثل شخصية بابا نويل، فهي تذكير غير مباشر بحقيقة بسيطة
أن العالم ما زال ينتظر الفرح. لا في البيوت الدافئة وحدها، بل في الأماكن التي أنهكتها الحروب،
حيث تنتظر المدن المنسية هدايا من نوع آخر
لحظة أمان، كلمة تضامن، إحساس بأن الألم مرئي ومعترف به.
عيد الميلاد، بهذه الروح، لا يدعونا إلى الهروب من الواقع، بل إلى التمهّل أمامه.
إلى إعادة طرح الأسئلة الأساسية التي كثيرًا ما نؤجلها
ما الذي يجعل العيش المشترك ممكنًا؟
وكيف نحمي المعنى الإنساني من التآكل وسط الضجيج؟
حين يولد هذا المعنى في داخلنا، لا يعود العيد مرتبطًا بتاريخ أو طقس.
يتحول إلى ممارسة يومية، وإلى وعي هادئ بأن كل إنسان هو إمكانية جديدة للحياة، وأن السلام لا يبدأ من القرارات الكبرى وحدها، بل من التفاصيل الصغيرة التي نختارها كل يوم.
لعل هذا هو ما يمنحه عيد الميلاد للعالم، في أفضل حالاته
تذكيرًا صامتًا بأن الإنسان، رغم كل شيء، ما زال قادرًا على أن يكون مساحة أمل
