حين يتكلم الجفاف بلغة الرياضيات: باحث مصري يُعيد تعريف العلاقة بين الماء والذاكرة في مؤتمر EGU 2025

فيينا دعاء أبوسعدة

0 93

في مدينةٍ تتنفس الموسيقى والفلسفة، وتحت سماءٍ أوروبية مشغولة بأسئلة المناخ والمصير، لم يكن مؤتمر الاتحاد الأوروبي لعلوم الأرض (EGU 2025) مجرّد مناسبة علمية كبرى، رغم أنه جمع أكثر من 18,900 عرض بحثي عبر 2,300 جلسة علمية. كان الحدث، في جوهره، أقرب إلى مرآة كونية تعكس كيف يحاول الإنسان فهم الأرض… لا لاحتلالها، بل للعيش بانسجام معها.

وفي تلك اللحظة الفكرية التي جمعت الجيولوجيين والمناخيين والفيزيائيين من مختلف القارات، جاء صوتٌ مصريٌ شاب، يحمل بين يديه ليس فقط بحثًا علميًا، بل رؤيةً جديدةً للعلاقة بين الإنسان والماء.

أبوبكر طه مصطفى، مهندس مصري، وُلد من رحم الواقع الخشن للإنشاءات والطاقة، ثم اختار أن يغوص في عمق الماء: من حماية نهر النيل والتنبؤ بالفيضانات في مصر، إلى دراسة الجفاف في قلب أوروبا. بدأ مسيرته في وزارة الموارد المائية والري، ثم قادته خطواته إلى النمسا، حيث حصل على ماجستير في الهندسة الجيوتقنية والهيدروليكية، ويكمل اليوم دكتوراه في جامعة فيينا للعلوم الطبيعية، كباحث فريد من نوعه في هيئة المياه التابعة لوزارة الزراعة والغابات وحماية المناخ وإدارة المياه النمساوية.

في أول مشاركة له بمؤتمر EGU، قدّم أبوبكر بحثًا فريدًا عن كيفية تسخير مياه الأمطار لمواجهة الجفاف في الأحواض الصغيرة بالنمسا، من خلال حلول طبيعية بعيدة عن الإنشاءات المكلفة. اعتمد في طرحه على نماذج رياضية متقدمة لمحاكاة سلوك الأرض والماء، وهي أدوات علمية بالغة التعقيد، لكن ما فعله أبوبكر كان أكثر من محاكاة… كان أشبه بترجمةٍ حساسةٍ لهمس الطبيعة.

ما ميّز بحثه لم يكن فقط حداثة الطرح، بل الدقة والواقعية التي دفعت الدكتور توماس فينجر، مشرفه العلمي في الوزارة، إلى ترشيحه شخصياً للمؤتمر، قائلاً إن هذا النوع من التفكير “هو ما تحتاجه أوروبا لتجاوز أزماتها البيئية القادمة”. بل إن ممثلاً عن شركة “Deltares” الهولندية، المصممة للنموذج الرقمي المستخدم، أثنى على مجهود أبوبكر، معتبراً عمله واحدًا من أكثر التطبيقات دقة وابتكارًا على النموذج.

لكن أبوبكر لا يتوقف عند الجفاف، بل يعمل حاليًا على مشروع موازٍ يهدف إلى مواجهة الفيضانات بطريقة طبيعية، تُمكّن الأرض من امتصاص الصدمة دون أن تُثقلها البنية التحتية الصناعية، في رؤية متكاملة تجمع بين العلم والإيكولوجيا والفلسفة.

“أنا لا أبحث عن السيطرة على الطبيعة، بل عن التفاهم معها”، يقول أبوبكر. “أن نصنع حلولًا لا تجرح التربة، ولا تُفقر الغد. أن نتذكّر أن الماء ذاكرةٌ، والجفاف نداءٌ، وأن الأرض حين تصمت، تكون في انتظار من يُصغي لها، لا من يصرخ فوقها.”

في عالم تزداد فيه أزمات المناخ تعقيدًا، يحتاج العلم إلى وجوه تُجيد الإنصات بقدر ما تُجيد الحساب، وأبوبكر طه هو واحد من هؤلاء: باحث مصري يُجيد المحاكاة، لكن قبلها يُجيد الإصغاء

 

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.