في صباحٍ قريبٍ من شمس التاريخ، ستفتح مصر قلبها للعالم من جديد، وتدعوه إلى مائدة مجدها الأبدي افتتاح المتحف المصري الكبير، صرحٌ لم يُبنَ بالحجر وحده، بل شُيّد بفكرٍ إنسانيٍّ لا يشيخ، وبروحٍ تُؤمن أن الحضارة لا تموت ما دام في الأمة من يحمل شعلة الوعي والإبداع.
يقف المتحف المصري الكبير عند بوابة الأهرامات، كأنه الابن الشرعيّ لتلك المعابد الحجرية التي تحدّت الزمن.
لكنه ليس استعادةً للماضي فحسب، بل هو إعادةُ صياغةٍ للحاضر برؤيةٍ حديثة تُمزج فيها التقنية بالخيال، والضوء بالحكاية، والإنسان بالمكان. إنك حين تخطو داخله، تشعر أن الزمن لم يعد خطًّا مستقيمًا، بل دائرةٌ يلتقي فيها ما كان بما سيكون.
حكمة المصري القديم… تتجدد بلغة العلم
منذ آلاف السنين، لم يكن المصري القديم مجرّد صانعٍ للحجر، بل كان فيلسوفًا يدرك أن الجمال طريقٌ إلى الخلود. واليوم، يتجسّد هذا الفهم في أدق تفاصيل المتحف، من هندسته المائلة بزاوية تستقبل ضوء الشمس القادمة من الهرم الأكبر، إلى تصميمه الداخلي الذي يقود الزائر في رحلةٍ فكرية تبدأ من نشأة الكون وتنتهي بحكمة الملوك.
يضم المتحف أكثر من مائة ألف قطعة أثرية، بينها المجموعة الكاملة للملك توت عنخ آمون التي تُعرض لأول مرة في تاريخها في مكان واحد. وترافق القطع الأثرية تقنيات عرضٍ حديثة، تعتمد على الواقع الافتراضي والواقع المعزّز، وشاشاتٍ تفاعلية توضّح للزائر أسرار النقوش، وتعيد بناء المعابد والقبور كما كانت قبل آلاف السنين. هنا لا يُعرض التاريخ ليُشاهَد فقط، بل ليُعاش ويُدرَك بالعقل والحواس معًا.
وفي أروقة المتحف العميقة تنتشر مراكز ترميم متقدمة تُعدّ من الأكبر في العالم، حيث يعمل علماء الآثار المصريون بأدواتٍ دقيقة تُعيد للحجر نبضه الأول.
إنها المعابد العلمية الحديثة التي تكمّل ما بدأه الأجداد حين صنعوا المومياء الأولى وكتبوا على جدرانها أسرار البقاء.
من الأهرامات إلى المستقبل… عبقريةٌ لا تنطفئ
لم يكن المتحف مشروعًا معماريًا فقط، بل مشروع وعيٍ وكرامةٍ وطنية.
لقد أثبت المصري المعاصر أنه الوريث الحقيقي لأجداده، ليس في الدم فحسب، بل في القدرة على تحويل المستحيل إلى إنجاز.
لقد استطاع أن يجعل من صحراء الجيزة فضاءً للحضارة، وأن يُثبت للعالم أن مصر تلك التي علّمت الإنسانية معنى الكتابة والحساب والفكر
لا تزال قادرة على الإبهار.
إن الأساليب الهندسية التي اعتمدها المتحف، من تصميم الواجهات الزجاجية التي تُطلّ مباشرة على الأهرامات، إلى الأنظمة الذكية للتحكم في الإضاءة والرطوبة لحفظ الآثار، كلها تُبرهن أن الإبداع المصري لا يقف عند حدود الماضي.
فكما صنع الأجداد أهراماتهم لتخاطب السماء، يصنع الأبناء اليوم متحفًا يخاطب المستقبل.
حدثٌ للعالم… وانتصارٌ للوطن
سيقف رؤساء وملوك من الشرق والغرب أمام هذا الصرح، لا ليشاهدوا فقط آثار الفراعنة، بل ليشهدوا استمرار عبقرية المصري في الزمن.
سيكون المتحف رسالةً إلى العالم بأن مصر قادرة على الجمع بين الأصالة والحداثة، بين التاريخ والعلم، بين الذاكرة والحلم.
وهو أيضًا ردٌّ حضاريٌّ على كل من شكّك في قدرة هذا الوطن على النهوض. فكل حجرٍ في جدرانه، وكل فكرةٍ في هندسته، تقول بصوتٍ واحد إن مصر لا تُهزم، لأنها ببساطةٍ لا تتوقف عن البناء.
خاتمة

في المتحف المصري الكبير، لا تقف أمام تماثيل الملوك بقدر ما تقف أمام فلسفة الإنسان المصري ذاته، الذي آمن بأن العمر لا يُقاس بالسنوات، بل بما يتركه من أثر.
وها نحن — أحفاد أولئك الملوك والبنّائين والعلماء — نكمل المسيرة ذاتها، نزرع في الحاضر بذور الخلود، وننقش على وجه المستقبل ملامح وطنٍ لا يعرف الانكسار.
إن افتتاح المتحف المصري الكبير ليس مجرد احتفال أثري، بل ولادة جديدة لمصر، وللإنسان المصري الذي ظل عبر العصور صانعًا للعجب، وحارسًا للنور، وسفيرًا للحضارة الإنسانية بأكملها
