اللغة التي لا تنحني: حين يصير الحرف وطنًا

بقلم: دعاء أبوسعدة

0 118

في عالم تتكسر فيه الأمم تحت وقع البنادق، وتُمحى فيه الهويات بالحبر الجاف للسلطات، ثمّة شعب لم يمتلك دولة، لكنه امتلك ما هو أعمق: لغة لا تموت.

في الخامس عشر من أيار، مايو لا يحتفل الأكراد بلغتهم بوصفها وسيلة للتواصل فحسب، بل كجدار داخلي للوجود، ومرآة ذاكرةٍ لم تكسرها السجون ولا المنع. في هذا اليوم، يُوقظ الحرف الكردي جذوره، ويستعيد نَفَسه العميق من بين طبقات القمع.

اللغة الكردية، التي لم تحمِها الدساتير، ولم تُدرَّس في المدارس الرسمية لأزمنة طويلة، بقيت تتنفس في الظلال. كجذوة تحت الرماد، اشتعلت همسًا في البيوت، وتسللت كصلاة محظورة على لسان الجدّات، كتعاويذ تُحفظ لا تُقال، وكأنها طقسٌ سرّي لا تحميه قوانين بل تحمله القلوب.

لم يكن الحرف الكردي مجرّد وسيلة تعبير، بل شكلًا من أشكال النجاة. فأن تقول “أمي” بلغتك، في بعض الجغرافيات، كان يعني التورط في جريمة. أن تغنّي بها، أن تكتب بها، أن تعلّمها لطفلك، كلّ ذلك كان وما يزال، في بعض الدول، فعلاً يُقابل بالمنع وربما بالمحاكمة.

لكن الأكراد لم يتراجعوا. لم يتنازلوا عن حرفهم، لأنه ببساطة، صار هو الوطن. من سوريا إلى تركيا، ومن إيران إلى العراق، لم تنجُ اللغة الكردية من القمع، لكنها نجت من النسيان. بقيت تُهمس بين الجدران، تُغنّى في الزفاف والحداد، وتُروى في حكايات الجبال.

لقد أدرك هذا الشعب، بفلسفة الصبر، أن الدول تُمحى وتُعاد، وأن الجغرافيا تتغير، لكن اللغة – إذا سكنت القلب – لا تُقتلع. فكانت اللغة الكردية أشبه بماسةٍ وُضعت تحت مطارق التاريخ، لكنها لم تنكسر، بل صارت أصلب، أنقى، وأعمق في معناها.

وفي المنافي، لم تذبل هذه اللغة. حملها المهاجرون كما يُحمل الحنين، وعلّموها لأطفالهم لا كواجب، بل كطقس هوية. في أوروبا، حيث الحريات أوسع، لم تُنسَ اللهجات الكردية، بل أزهرت من جديد، وكأن الغربة لم تكن سوى حاضنة أخرى لذاكرة لا تموت.

في هذا اليوم، لا يُرفع فقط شعار الاحتفاء بالحروف، بل يُعاد بناء وطنٍ روحي في داخل كل فرد. تُلقى القصائد، وتُغنّى الأغنيات، لكن ما يُقام في العمق أكبر من مظاهر الاحتفال: إنه إعلان صامت، أن الأمة التي لا تُعترف بها سياسيًا، قد صنعت لنفسها جغرافيا خفية من الحرف والهوية.

اللغة، إذًا، لم تكن يومًا مجرد وسيلة تواصل. بل صارت فعلًا وجوديًا. فلسفةً تنبض في وجدان كل من نجا من محاولات المسح والتذويب.

وبين كل المآسي التي عرفها الأكراد، يبقى أعظمها أنهم ما زالوا يُعاقَبون لأنهم لم يتخلّوا عن لغتهم. ومع ذلك، لم يتوقفوا عن الحلم. فالصبر هنا ليس ضعفًا، بل حكمة. حكمة الشعوب التي تعرف أن من يحفظ لغته، لا يموت. لأنه ببساطة، ما زال يعرف كيف ينطق اسمه، ويقول “أنا هنا” بلغته

مصر عادى
اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.