العربية… ليست لغة الماضي بل سؤال الغد

فيينا دعاء أبوسعدة

0 39

في عالمٍ يتكاثر فيه الكلام حتى يفقد معناه، تصبح القيمة الحقيقية للغة في قدرتها على الإصغاء لا على الإكثار من القول. 

فليست الأزمة التي نعيشها اليوم أزمة لغات تموت، بل لغات تُستهلَك بلا وعي، وتُستخدم بلا تأمل، وتُفرغ من عمقها الإنساني. 

وهنا، تقف اللغة العربية — في يومها العالمي — لا باعتبارها لغة بيان فحسب، بل باعتبارها لغة تأمل، وصمت ناطق، وإصغاء طويل للعالم.

18 ديسمبر: يومٌ للغة… أم يومٌ للأسئلة؟

فيه من كل عام، يحتفل العالم بـ اليوم العالمي للغة العربية، تخليدًا لاعتمادها لغة رسمية في الأمم المتحدة. 

وفي هذا العام 2025، يأتي الاحتفال تحت شعار

«مسارات مبتكرة للغة العربية: سياسات وممارسات من أجل مستقبل لغوي أكثر شمولًا»، 

وهو شعار يبدو للوهلة الأولى تقنيًا، لكنه يخفي سؤالًا فلسفيًا عميقًا

كيف يمكن للغة أن تظل إنسانية في عالم يتسارع حدّ نزع المعنى؟

فالابتكار هنا لا يعني فقط تحديث الأدوات، ولا تعني الشمولية مجرد توسيع نطاق الاستخدام، بل تعني قبل كل شيء إعادة الاعتبار لوظيفة اللغة بوصفها فضاءً للفهم لا للهيمنة، وللإصغاء لا للضجيج.

العربية كلغة تصغي قبل أن تتكلم

ما يميز العربية عن كثير من اللغات هو أنها لغة تبني المعنى من الجذر؛ كأنها لا تقبل السطح، بل تنزل دائمًا إلى العمق. 

الجذر في العربية ليس مجرد بنية لغوية، بل فلسفة كاملة

 فالمعنى لا يولد إلا بعد بحث، ولا يكتمل إلا بعد صبر. 

وربما لهذا السبب، كانت العربية لغة الفلاسفة والمتصوفة والشعراء، أولئك الذين آمنوا أن الحقيقة لا تُقال دفعة واحدة، بل تُكتشف بالتدريج.

في زمن الإعلام السريع، والخطاب المقتضب، والتواصل الفوري، تبدو العربية كأنها لغة بطيئة. 

لكنها في الحقيقة لغة عميقة، والفرق شاسع بين البطء والعمق. فالعربية لا تلهث خلف المعنى، بل تنتظره، وتمنحه الوقت ليظهر في صورته الأكثر صدقًا.

الابتكار الحقيقي إنقاذ المعنى لا الشكل

حين نتحدث عن مسارات مبتكرة للغة العربية، فإن أخطر ما يمكن أن نفعله هو اختزال الابتكار في التكنولوجيا وحدها.

 و الأعمق هو ابتكار العلاقة مع اللغة نفسها

كيف نعلّم أبناءنا أن الكلمات ليست أدوات استهلاك، بل مسؤولية أخلاقية؟ 

كيف نعيد للعربية قدرتها على إنتاج التفكير، لا مجرد ترديد المعلومات؟

الشمول اللغوي، في هذا السياق، لا يعني فقط إيصال العربية إلى المجتمعات محدودة الموارد، بل يعني أيضًا إيصال المعنى إلى الإنسان المنهك من فائض الخطاب. 

فالعربية قادرة إذا أُحسن استخدامها أن تكون لغة تهدئة في عالم عصبي، ولغة معنى في عالم مشتت.

اللغة بوصفها موقفًا من العالم

ليست اللغة حيادية؛ كل لغة تحمل رؤية ضمنية للعالم. 

والعربية، بتاريخها الطويل، تحمل رؤية تعتبر الإنسان كائنًا لغويًا أخلاقيًا، لا مجرد ناقل للمعلومات. ولهذا، فإن مستقبل العربية لا يُختبر فقط في المدارس والمنصات الرقمية، بل في الطريقة التي نستخدمها بها حين نختلف، وحين نكتب، وحين نفسر الواقع.

في هذا المعنى، يصبح اليوم العالمي للغة العربية ليس احتفالًا بلغتنا، بل مراجعة لخطابنا 

هل نستخدم العربية لتقريب المعنى أم لتضليله؟ للفهم أم للإقصاء؟ للحوار أم للانتصار؟

خاتمة العربية كملاذ إنساني

ربما لا تحتاج العربية اليوم إلى من يدافع عنها بقدر ما تحتاج إلى من يصغي إليها.

 ففي جذورها، وفي تراكيبها، وفي قدرتها الفريدة على الجمع بين الدقة والجمال، تكمن إمكانية أن تكون لغة إنسانية بامتياز، لا تنافس اللغات الأخرى، بل تكملها.

وفي يومها العالمي، تهمس العربية بسؤال هادئ في عالم صاخب

هل ما زال الإنسان قادرًا على الإصغاء؟

فإن كان الجواب نعم، فالعربية ما زالت في قلب المستقبل.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.