الحُبّ: النور الذي لا نراه

فيينا دعاء أبوسعدة

0 49

نحن لا نكتب عن الحُب لأننا نُجيده، بل لأننا نجهله.

نكتب عنه لأننا نشعر بغيابه أكثر مما نحتفل بحضوره.

نكتبه كما يُكتب الضوء في قلب العتمة، وكأننا نحاول الإمساك بما لا يُمس، ونُصرّ رغم كل الخيبات على أن نعود إليه، كلما انكسر فينا المعنى.

في زمنٍ تتكاثر فيه الحروب، وتختنق فيه الأرواح خلف أقنعة الخوف والردع والمصالح، يبدو الحديث عن الحب عملاً لا واقعيًا.

لكن في الحقيقة، هو وحده الحقيقة التي لم تُجرب بعد بما يكفي.

 

بين الفلاسفة والنار

الحب ليس سؤالًا يبحث عن إجابة، بل جرحًا مفتوحًا لا يُشفى.

منذ أن وعى الإنسان هشاشته، بدأ يسير نحو الحُب، لا لأنه ترفٌ شعوري، بل لأنه الكنز الوحيد الذي يشعرنا أننا ما زلنا بشرًا.

من أفلاطون إلى نيتشه، ومن شوبنهاور إلى الرومي، لم يكتب أحدهم عن الحُب ليعرّفه، بل ليقترب من ناره دون أن يحترق بالكامل.

كلهم طافوا حوله، لأنه لا يُمسك… بل يُسكن.

لا يُعرّف… بل يعرّينا.

قال أفلاطون إن الحب توقٌ إلى الجمال الخالد،

وقال نيتشه إن الحب ضعف الإرادة،

وقال المتصوفة الحب هو الله حين يتجلى.

لكن الحقيقة أن الحب لا يُفهم، بل يُعاش.

ليس من جنس العقل، بل من معدن آخر

من الحنين، والفقد، والانخطاف، والدهشة التي لا تُشرح.

في الدين… الحب مقام لا يزول

حين نفخ الله في الإنسان من روحه، زرع فيه القدرة على الحب، لا كخيار، بل كشرطٍ للوجود.

فالله جميل، ويحب الجمال.

وقد عرفنا الجمال من رحم هذا الحب الأول،

لكننا، بمرور الزمن، تبعنا هوى أنفسنا،

فاستبدلنا الحب بالخوف، والعطاء بالاستغلال، والرحمة بالقسوة المنظمة.

 

غفلنا عن التحذير الإلهي “إن الشيطان لكم عدوٌ فاتخذوه عدوًّا.”

لكننا لم نتخذه عدوًّا.

بل صادقناه، وآمنّا بخططه،

فانكسر العالم… من الداخل أولًا،

ثم تهاوى خارجيًا في الحروب، والخذلان، والعزلة المتبادلة.

 

العالم… والحب الغائب عن الطاولة

 

اليوم، في قلب هذا الكوكب الموشك على الانفجار،

لا تُناقش الأمم الحب، بل الردع النووي.

في مواجهة بين إيران وإسرائيل،

في توازن هشّ بين أزرار الفناء،

في احتمالات تصمت فيها الخرائط وتتحدث فيها الظلال.

 

هل سيُمحى كل شيء في ثانية؟

هل تذوب مدينة؟

هل نتنفس الإشعاع دون أن ندري؟

أم أن في مكانٍ ما من هذا العالم، لا يزال هناك قلب لم يتوقف عن الخفقان؟

هل الحب لا يزال ممكنًا… ولو كلغة أخيرة قبل الصمت الكبير؟

 

الأسلحة لا تصنع سلامًا.

السلام يصنعه من لم يتخلّ عن حب الآخر،

من يرى في المختلف مرآة لا تهديدًا.

من يعرف أن النجاة ليست في الغلبة، بل في الغفران.

 

الحب… ما لا يُقال

 

نكتب عن الحب لأننا عاجزون عن الإمساك به.

لكنه وحده ما يمنحنا المعنى.

الحب لا يُدوَّن، بل يُعاش.

لا يُنطق، بل يُسكن.

لا يصرخ، لكنه يسمع ما لا يُقال.

ولا يموت، لأنه لم يُخلق من طين، بل من نور.

 

هو الشيء الوحيد الذي لا نملكه، لكننا نعرف تمامًا متى نفقده.

هو سرّ بقائنا، حين تنهار كل التعريفات الأخرى للإنسان.

 

في زمنٍ تتكرر فيه نشرات الأخبار كمراثٍ جماعية،

وفي زمنٍ تتقن فيه البشرية فنّ الكراهية،

يصبح الحُب رهانًا أخيرًا لا لإنقاذ العلاقات…

بل لإنقاذ الإنسان من نفسه

مصر عادى
اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.