في زوايا الحياة الصاخبة، حيث تتكاثف الأحداث كالسحب، وتتشابك الأحلام بالخسائر، تظهر “البهجة” كمفردة نادرة، كأنها ليست من طين هذا العالم بل من خيوط النور الأولى، حين انبثقت الحياة من العدم.
لكن، ما البهجة؟ هل هي نقيض الحزن فقط؟ أم أنها لحظة وجودية تشبه الوحي، لا تُمنح لمن يطلبها بل لمن يتوقف فجأة عن السعي؟ الفلاسفة لم يمروا على البهجة مرورًا عابرًا؛ أفلاطون رآها انعكاسًا للخير، وسبينوزا اعتبرها دليلاً على ازدياد قدرة الكائن على الوجود. بينما تساءل سارتر إن كان في البهجة خلاص، أم مجرد خدعة وجدانية نختبئ بها من عبث العالم.
البهجة ليست سعادة… إنها أعمق
السعادة مشروع، خطة، هدف… أما البهجة فهي ما يربك هذا النظام كله. لحظة بهجة قد تأتيك دون سبب: صوت طائر في الصباح، ضحكة طفل في شارع جانبي، كتاب نسيت أنك وضعته في حقيبتك… البهجة لا تُشترى ولا تُورَّث، بل تُولد فجأة وتخفت بهدوء، لكنها تترك أثرًا يشبه طعم الحياة الحقيقي، ذلك الطعم الذي لا يُشرح، بل يُعاش.
بهجة الروح في مواسم السماء
ونحن نعيش أيام العشر الأوائل من ذي الحجة، تتفتح الأرواح على بهجة من نوع آخر، بهجة لا ضجيج فيها، ولا زينة عابرة، بل صفاء روحي ينمو في صمت العبادة، في خفة القلب حين يصعد الدعاء. هذه الأيام، التي أقسم بها الله، تحمل في طياتها إشارات من نور… فهي لا تكتفي بأن تبشر بعيدٍ قادم، بل تدعونا لنفرح بأننا ما زلنا نملك القدرة على الاقتراب من الله، على إصلاح ما كُسر في دواخلنا، على ترميم أرواحنا بالصلاة والتوبة والخشوع.
ويأتي العيد… لا كطقس احتفالي فقط، بل كذروة للبهجة الإيمانية، لحظة تصافح فيها الأرض السماء، ويشعر الإنسان، ولو للحظات، بأنه خُلق ليفرح.
البهجة مقاومة ناعمة
لكن، هل ما زال في العالم متسع للبهجة؟ في زمن تُدفن فيه الضحكات تحت ركام الحروب، في خيام النزوح وصمت المقابر الجماعية، يبدو الفرح ترفًا، والبهجة فعلًا من أفعال المقاومة. نعم، أن تفرح رغم كل الخسارات، أن تعلّق زينة العيد في خيمة، أن تبتسم وأنت توزع تمورًا على من لا يملكون غير الانتظار… هو إعلان خفي بأنك لم تُهزم بعد.
البهجة لا تُنكر الألم، لكنها ترفض أن يكون السيد المطلق على القلب. البهجة تقول: “أنا هنا، بين الدمار، أزهر.”
البهجة كفلسفة حياة
ربما آن الأوان أن نعيد التفكير في البهجة لا كترف شعوري، بل كقيمة حياتية، كقوة داخلية لا تقل أهمية عن الحكمة أو العدالة. أن نربّي أبناءنا على تذوق الجمال لا على الخوف من الفقد، أن نعيد تعريف النجاح ليشمل لحظات الاندهاش والضحك الصافي، لا فقط سباق الإنجازات.
أن نفرح في العيد لا لأننا نملك كل شيء، بل لأننا ما زلنا نملك قلوبًا تنبض، وأرواحًا قادرة على أن تشتعل بالنور رغم العتمة.
خاتمة: البهجة كنز لا يُنقّب عنه، بل يُصادف
البهجة لا تُصطنع ولا تُفتعل. إنها مثل الشعر، لا تأتيك حين تطلبها، بل حين تنسى الطلب. إنها من جنس المفاجأة، من طينة الطفولة، من زرقة السماء حين يغيب المنطق.
وفي موسم العشر، وفي ظل عيدٍ يتسلل إلى القلوب الجريحة، نُدرك أن البهجة ليست نكرانًا للألم، بل طريقًا لمواجهته بإنسانيتنا الكاملة… تلك التي لا تُهزم بسهولة، لأنها تؤمن أن الفرح، ولو كان عابرًا، هو شهادة بأن الحياة ما زالت جديرة بأن تُعاش
