البازار الدولي السادس والخمسون… حين يتحوّل العمل الخيري إلى لغة عالمية تتكلّمها الشعوب بلا مترجم

فيينا دعاء أبوسعدة

0 25

في قلب فيينا، المدينة التي تزدحم بسحر مواسم الميلاد وأضواء الشتاء، كان ثمّة ضوء آخر يلمع خارج حسابات الزينة والاحتفال؛ 

ضوء أكثر هدوءًا، لكنه أعمق أثرًا. 

إنه البازار الخيري الدولي السادس والخمسون لجمعية المرأة للأمم المتحدة، الحدث الذي بدا هذا العام كمشهدٍ تتقاطع فيه الإنسانية مع الدبلوماسية، وتلتقي فيه الثقافات لا بوصفها رموزًا سياسية، بل بوصفها طرقًا مختلفة لقول الشيء نفسه

 أن الطفل، في أي بقعة من العالم، يستحق أن يُنقذ ويُحتضن ويُتاح له الغد.

تولّت هذا العام رنا هواش المصري، رئيسة بازار جمعية المرأة للأمم المتحدة 2025، قيادة الفعالية بروح تجمع بين الدقة التنظيمية والرؤية الإنسانية، فانعكس حضورها في التفاصيل الصغيرة كما في الصورة الكبرى، حيث بدا البازار كأنّه عملٌ جماعيّ كبير تقوده يدٌ خبيرة تعرف كيف تُحسن إدارة التنوع وتحويله إلى طاقة خير.

لم يكن البازار مجرد سوق، بل جغرافيا صغيرة للعالم. 

زوجات الدبلوماسيين، ونساء الأمم المتحدة، ومتطوعات من أكثر من مئة دولة، اجتمعن تحت سقف واحد ليحوّلن الحرف اليدوية والأطعمة والرموز الشعبية إلى جسور دعم تُرسَل إلى أطفال لم يلتقين بهم لكنهن عرفوهم في حاجتهم.

وفي حين تبدو فيينا مدينة مكتفية، مترفة بطقوسها ومعالمها، كان المبنى الذي احتضن الفعالية ينبض بحكاية مختلفة؛ 

حكاية تقول إن العالم، رغم اضطرابه، ما زال قادرًا على أن يقف جنبًا إلى جنب، لا من أجل اتفاقيات كبرى، بل من أجل قلم يمسكه طفل في مدرسة نائية، أو نافذة تُفتح في غرفة مشفى، أو بئر ماء تُغيّر حياة قرية بأكملها.

تُدير جمعية المرأة للأمم المتحدة هذه الفعالية منذ 1967، ويُراجع حساباتها سنويًا خبراء وكالة الطاقة الذرية، كأنّ الدقة المحاسبية امتداد طبيعي لصفاء الهدف. 

لا تغطي التبرعات رواتب ولا نفقات إدارية، ولا تدخل في طوارئ عابرة؛ بل تذهب مباشرة إلى مشاريع مستدامة تُبنى ببطء، لكنها تبقى طويلًا في حياة من يصل إليهم أثرها.

ان العام الماضى ، منحت الجمعية أكثر من 247 ألف يورو لثلاثة وثلاثين مشروعًا تمتد من آسيا إلى إفريقيا وأميركا اللاتينية. 

أطفال فقدوا القدرة على التعليم، أو يعانون أمراضًا خطيرة، أو يعيشون بلا مياه نظيفة… كل هؤلاء يجدون مكانًا في سجل الاهتمام، بلا تمييز أو فرز أو حدود.

وتحت قيادة رنا هواش المصري، بدا البازار أشبه بمنصة رمزية تقف عليها شعوب العالم المتجاورة؛

نساءٌ من قارات متعددة يقدمن أطباقهن القومية، أزياءهن، وحرفهن، كأنهن يكتبن سيرة الشعوب بطريقة جديدة 

 تبدأ من المطبخ والحكاية والأغنية، وتنتهي في يد طفلٍ يمسك لحظةً أفضل من الحياة.

أطفال الجاليات شاركوا أيضًا؛ رقصات شعبية، ضحكات، لغات تتقاطع، وأزياء قومية تلغي المسافات بين القلوب.

في عالمٍ يزدحم بالتوترات والاختلافات، بدا البازار كمساحة نادرة حيث تتقدم الحياة خطوة صغيرة على حساب الاستقطاب؛ خطوة لا تُحدث ضجيجًا، لكنها تُحدث تغييرًا.

تغييرًا يشبه تمامًا الفلسفة التي آمنت بها الجمعية منذ تأسيسها

أن الخير، حين يُمارَس بصدق، لا يحتاج إلى ضوءٍ كبير ليُرى، بل يكفي أن يصل.

وفي النهاية، يخرج الزائر بشعور لا يمنحه أي معرض آخر

شعور بأن الإنسانية، رغم كل شيء، ما تزال تمتلك ما يكفي من الضوء لتستمر…

وأن امرأة متطوّعة تحمل طبقًا من مطبخها الوطني قد تغيّر حياة طفلٍ في بلد لا تعرفه—لأنها آمنت ببساطة أن العالم يمكن أن يصبح أفضل، ولو بخطوة واحدة

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.