غريبٌ هذا الهجوم على رئيس الوزراء العراقي السابق نوري المالكي بسبب التسريباتِ التي كَشَفَ فيها ما كَشَفَ عن دورِ أنصار إيران في المنطقة وكيفيةِ إدارتِهم للدول بوكالةِ التكليف.
كان يجب أن يُشْكَرَ على ما قاله، ويُشْكَرَ على توفيره عناءَ البحثِ والتحليل واستخلاص النتائج مما يَحْدُثُ في كل الإقليم المُمانِع، ويُشْكَرَ على شفافيته وصراحته وقول الأمور كما هي بلا زيادة. ولولا حرصه على إكمال مهمته وطموحه السياسي المستمرّ، لكان دَخَلَ في تفاصيل أخرى تتضمّن وقائعَ ما زالت موضعَ شك، مثل تهريب آلاف العناصر الإسلامية من سجونه “فجأة”، وانسحاب آلاف عناصر الجيش العراقي “فجأة”، وقيام إمارة “داعش”… فجأة.
ولماذا الغضب من نوري المالكي؟ قال الرجل ما يشعر به أيّ مواطنٍ عراقي ولا يجرؤ أن يبوح به خشية كاتمِ صوتٍ ليليّ كما حصل لهاشم الهاشمي، أو خوفاً من أن يصبح هدفاً لقنّاصٍ ملثّم كما حصل في ساحات التظاهر. كَشَفَ كشاهدٍ من أهله ما لم تستطع مراكزُ البحث والتحليل والاستخبارات إثباتَه بالنسبة لسياسة إيران في المنطقة.
أولاً، أَثْبَتَ المالكي أن إيران تُتاجِرُ بالموضوع المذهبي وهي فعلاً لا يهمّها شيعي وسنّي ومسيحي وكلداني وأشوري. فمَن ينفّذ أجندتَها هو الوطني، ومَن يخالفها هو عميلٌ لإسرائيل وأميركا، وانضمّت إليهما دولٌ خليجية في الوقت الراهن. والدليلُ على ذلك أن التيارَ الصدري المُغْرِق في “شيعيّته” هو تيارُ العمالة بالنسبة إلى المالكي، وأن الحشد الشعبي المماثل للحرس الثوري قد يكون تحت مرمى النيران إن ضلَّ الطريق.
ثانياً، أَثْبَتَ أن إيران لم توقف تصديرَ الثورة بل غيّرتْ الأسلوبَ من خلال دعْم ميليشياتٍ مُوالِيَةٍ لتشكيلِ دويلةٍ مع وجود دولةٍ واجهة تَخْدُمُها.
ثالثاً، أَثْبَتَ أن آليةَ التقارب في كل إقليمِ الممانعة قائمةٌ على ترْك الدويلة تقْضم الأرضَ والمؤسسات رويداً رويداً بتهديد الاستقرار حيناً وتنفيع الحلفاء والمقرّبين الذين باعوا السيادةَ بأثمان خاصة لهم ولتياراتهم حيناً أخرى. والأهمّ هو الكلام الذي أكد فيه أن الجيشَ والشرطة في العراق غير جديريْن بالثقة ولا يُعتمد عليهما … وكم من كلامٍ مُشابِهٍ لذلك تَحَقَّقَ في لبنان وصنعاء وغزة وسورية.
رابعاً، كَشَفَ بكل أريحيةٍ خلال حديثه مع مجموعةٍ مُقاتِلَةٍ أن التغذيةَ العقائدية حول الشهادة والحياة الأفضل في الآخِرة والتمسُّك بقِيَم التضحية وانتصار الدم على السيف وغيرها إنما هي تغذيةٌ مصبّها واحد. فالرجل بعدما استمع وأَسْمَعَ، يَدْخُلُ في الموضوع مباشرة. فالمالكي ينصح بالعمل مع إيران (وليس مع الحكومة العراقية) ويكشف ان موفدا من قبلها سيزوره ويلتقيه وهو – كثر الله خيره – مستعدّ لتلزيم هذه المجموعة له بغية خدمة أفرادها لوجه الله إن حصل على تفويضهم.
خامساً، أوضح أن قصةَ تحريم الدم بين المسلمين شعارٌ فضفاض، ونسيَ طبعاً أن مَن قَتَلَ نَفْساً بغير نفْسٍ فكأنما قَتَلَ الناس جميعا. ففي التسريب استعدادٌ لمقاتلة هذا الفصيل أو ذاك وقتْل هذا أو ذاك ووضْع مرجعية النجف بين منطقتيْ الشجاعة الناطقة إن كانت مع إيران، والصمت إن احتفظتْ بكيانها العربي.
سادساً، هدّد الرجلُ باستخدام كل الأسلحة والوسائل المحرّمة لكنه أعطى المعاركَ التي يستعدّ لها عناوينَ مثل المقاومة والحفاظ على الشيعة وقطْع الطريق على عودة البعث وحماية الدولة من الانهيار، متماهياً مع كل مَن اعتبر نفسه الحق وغيرَه الباطل، ومَن عاش حالة أنه المؤمن وغيره كافِر … ولاحِظوا تَطابُقَ الشعارات نفسها في عواصم الممانعة، مع بعض التغييرات.
سابعاً وعاشراً ومئة، كلما غَرَفْتَ من نبْع تسريبات المالكي كلما ازددتَ شكراً له لأنه وفّر على الجميع عناءَ التحليل، على أمل ظهورِ تسريباتٍ تَكتب القصةَ الأخرى لخروجِ التنظيمات الإرهابية من سجون عواصم الممانعة … اللهم إلا إن كان يريدنا أن نعيش العمرَ كله مصدّقين أن هيلاري كلينتون هي مَن فَعَلَتْ ذلك.