مصر تُحاور الذاكرة الإنسانية في قلب فيينا: الدكتور خالد العناني يُعيد إشعال وهج الحضارة في متحف الفن التاريخي
فيينا دعاء أبوسعدة
في ليلةٍ تشابكت فيها الظلال بالنور، وتصالحت فيها الأزمنة على أرض الجمال، احتضنت العاصمة النمساوية فيينا أمسية استثنائية من أمسيات الفكر والفن والدهشة، داخل أروقة متحف تاريخ الفن – قاعة باسانو، حيث ألقى معالي الأستاذ الدكتور خالد العناني، أستاذ علم المصريات بجامعة حلوان ووزير السياحة والآثار المصري الأسبق والمرشح لمنصب المدير العام لمنظمة اليونسكو، محاضرةً وُصفت بأنها رحلة فكرية في روح الحضارة المصرية، تعيد قراءة الماضي بعين الحاضر، وتفتح نوافذ من القاهرة إلى قلب أوروبا.

كانت المحاضرة، التي ألقاها الدكتور العناني باللغة الإنجليزية، بمثابة جسر من الوعي بين حضارتين، جاءت بدعوة خاصة من متحف تاريخ الفن في فيينا، أحد أعرق معابد الجمال في العالم، تكريماً لإسهاماته في حفظ الذاكرة الإنسانية وصون تراثها المادي والروحي.
وفي حديثٍ جمع بين الصرامة الأكاديمية وبهاء الرؤية الإنسانية، استعرض البروفيسور العناني ملامح النهضة الأثرية المصرية، من البعثات التي تنقّب في أسرار الرمال إلى الاكتشافات الحديثة التي تفتح صفحات التاريخ من جديد. كما تحدّث عن مشاريع الترميم الكبرى التي لم تقتصر على إنقاذ الحجر، بل امتدت إلى إحياء المعنى في الذاكرة، واستعادة نبض الهوية المصرية في وجه النسيان.
وتناول الدكتور العناني أيضاً جهود مصر المعاصرة في تحديث منظومة المتاحف، وعلى رأسها المتحف المصري الكبير، بوصفه مشروعاً حضارياً يُجسّد فكرة الاستمرارية بين الماضي والمستقبل، مشيراً إلى الإصلاحات المؤسسية والتشريعية التي أعادت صياغة علاقة الدولة بالتراث في إطار من الرؤية العلمية والاستدامة الثقافية.

وشهدت الأمسية حضوراً رفيع المستوى تقدّمه أندرياس بابلر، نائب المستشار ووزير الثقافة النمساوي، وممثلون عن وزارة الخارجية النمساوية ومدير عام المتاحف النمساوية، وعدد من مسؤولي متحف الفن الحديث. كما شارك في الحضور السفير السابق جورج شتيلفريد سفير النمسا لدى القاهرة ،إلى جانب أعضاء البعثة الدبلوماسية المصرية برئاسة السفير محمد نصر، المندوب الدائم لدى الأمم المتحدة، والمستشار محمد البحيري، قنصل مصر لدى النمسا والمنظمات الدولية، والدكتور خالد أبو شنب، المستشار الثقافي ومدير المكتب الثقافي والتعليمي المصري في فيينا وشرق أوروبا.
وامتدّ الحضور ليشمل نخبة من السفراء العرب، من بينهم سفراء المملكة العربية السعودية، والمملكة الأردنية الهاشمية، وجمهورية السودان، والمملكة المغربية، وممثل جامعة الدول العربية لدى الأمم المتحدة، إلى جانب عدد من سفراء الدول الأجنبية الذين عبّروا عن إعجابهم العميق بما قدّمه الدكتور العناني من رؤية فلسفية تُعيد للتراث الإنساني صوته وسط صخب العالم الحديث.
كما شارك في الأمسية رموز الفكر والثقافة في النمسا، من بينهم الدكتورة مونيكا سومر، مديرة متحف دار التاريخ النمساوي سابقاً، وجمع من الباحثين في علم المصريات، والطلاب والمهتمين بالآثار، وممثلي وسائل الإعلام، فضلاً عن رموز الجاليات العربية والهيئات الدولية.
كانت المحاضرة، في عمقها الإنساني، أكثر من عرض أكاديمي؛ كانت رحلة في الوعي، وصلاة في محراب الجمال، إذ بدا المتحف في تلك الليلة وكأنه يتنفّس بالحروف الهيروغليفية، وتتماوج في جدرانه أصوات الملوك والكهنة والنحاتين، كأنّ مصر القديمة قد عادت لتُخاطب العالم من جديد.
وفي ختام الأمسية، شهدت القاعة لحظات إنسانية خالدة حين تسابق الحضور من الباحثين والضيوف الأجانب إلى مصافحة الدكتور خالد العناني، احتفاءً بعلمه وشخصه وترشيحه المشرّف لمنصب المدير العام لمنظمة اليونسكو، في مشهدٍ عَبِق بالاحترام والتقدير، يجسّد كيف تتحول الحضارة المصرية من أثرٍ على جدار إلى قوةٍ حيّة في ضمير الإنسانية.
وعقب المحاضرة، أقام السفير المصري في فيينا، السفير محمد نصر، حفل استقبال مهيباً تكريماً للدكتور خالد العناني في مقر إقامته، بحضور عدد من كبار الشخصيات الثقافية والدبلوماسية، في أجواءٍ احتفائية دافئة تماهت فيها الدبلوماسية بالثقافة، والرسالة الإنسانية بالضيافة المصرية الأصيلة.
وفيينا، تلك المدينة التي تُجيد الإصغاء إلى الموسيقى، أنصتت هذه المرة إلى موسيقى التاريخ، فسمعت من بين الكلمات نبض الأهرام، ومن وراء الصور خفقان الحضارة التي لم تزل تُعلّم العالم معنى الخلود

